من اين تأتي الانسان قوة استثنائية تدفعه في لحظة رهيبة الى قتل نفسه..خنقا أو شنقا او سمّا أو برصاصة في الرأس ؟! هل يأتيه صوت : من الداخل ؟ من الخارج؟ له هذا الجبروت فينفّذ أمره ؟. أليس الموت بحدّ ذاته مفزعا ، فكيف اذا كان انتحارا؟!. انك قد تجد بعض العذر لأشخاص جاهلين أو فقراء او سجناء أنتحروا ، ولكن أن ينتحر مثقفون وميسورون وأحرار..وبنسبة أعلى ، فذلك أمر غريب . والغريب ايضا، أن الأدباء يتفنون في أساليب انتحارهم : فجاك لندن ، وفالترهازنكليفر ،و كورت توخولسكي ، وآرثر كوستلر وزوجته..انتحروا بالسم . وستيفان زفايج وزوجته تناولا حبوبا منوّمة وانتحرا في يوم المهرجان الكبير الذي يقام في ريو دي جانيرو ! ومثلهما فعل جورج تراكل الذي انتحر بالكوكائين.وآرنست تولر انتحر شنقا، وكذلك فعل الأديب عبد الباسط الصوفي الذي شنق نفسه بحبل بجامته!.ويبدو أن أكثرهم فضّل الانتحار بطلقة في الرأس: أرنست همنغواي ، ورومان جاري، ومايكوفسكي، وهنري دي مونترلان، والقاص المصري محمد رجائي عليش الذي انتحر في سيارته، قريبا من شقتين يمتلكهما !. والذي تحار فيه أن أسباب قتل الأدباء لأنفسهم غير مبررة، او مثيرة للأستغراب . فالروائية فرجينيا وولف انتحرت خوفا من الجنون، والكاتبة الأرجنتينية مارتا لنيش انتحرت بعمر الستين لأنها لم تطق رؤية التجاعيد بوجهها، فيما كان الانتحار عند الروائي الايطالي سيزار بافيز مناسبة احتفالية..وصف فيها الانتحار بأنه أهم عمل في حياته !. وفي يوم افتتاح معرض الكتاب في ألمانيا ، أعلن عن نبأ انتحار الأديب جين آمري..وكأنه أراد أن يذيع على زوار المعرض ..نبأ رحيله . غير ان انتحار الشاعر اللبناني خليل حاوي كان احتجاجا على الدعارة والوحشية التي ارتكبها الاسرائيليون بحق الفلسطينيين. وقل الشيء نفسه عن الأديب الياباني يوكيو ميتشيما الذي صعد الى شرفة كلية الأركان وألقى كلمة دعا فيها الى رفض الخضوع للحضارة الأمريكية وتعديل الدستور الياباني، ثم تناول خنجره وغرسه أسفل معدته!. وتحار بأمر انتحار أديبين حائزين على جائزة نوبل للآداب: أرنست همنغواي والروائي الياباني ياسوناري كاوباتا، وكأنهما لم يحتملا الشهرة أو اعتقادهما بأنهما لن يكونا بمستواها بعد الآن. وقد يرى بعض المثقفين أسبابا مبررة لانتحار بعض الأدباء. فالقاص العراقي مهدي علي الراضي، انتحر بعد أن وجد نفسه مهمشا وخائبا ومنسّيا. وقد يرى فيه زملاؤه أنه كان أشجع منهم، لأنه لم يرض مثلهم أن يقوم بدور الانسان العادي!. وقد يكون اليأس المطلق هو الذي قتل الأديب والاذاعي الأردني الشاب تيسير السبول، الذي كتب في قصيدته الأخيرة يقول
أنا ياصديقي أسير مع الوهم،أدري أيمّ نحو تخوم النهايه،نبيا غريب الملامح مضي الى غير غايه، سأسقط للأبد، يملأ جوفي الظلام، نبيا قتيلا وما فاه بعد بآيه! ).والجزع من الحياة هو الذي دفع – كما يبدو-ستيفان زفايج، صديق فرويد، الى الانتحار، اذ كتب يقول
ما جدوى أن يواصل الانسان حياة شاحبة باهته). وقد يكون سبب الانتحار سخط الأديب على الناس كما فعل الكاتب المصري محمد رجائي عليش،الذي بعث قبيل انتحاره برسالة الى النائب العام قال فيها
عشت هذه السنين الطويلة وأنا أحلم بالانتقام من أفراد المجتمع الذين أفلحوا في أن يجعلوني أكفر بكل شيء). ونعود نسأل:هل الأسباب التي ذكرها الأدباء كانت مبررة لأن يقتلوا أنفسهم؟أم أنهم مرضى نفسيا؟ أم أن هنالك علاقة بين الابداع والانتحار ؟. فرويد والانتحار: يعزو فرويد الانتحار الى فقدان الشخص انسانا" كان قد توحّد به ويحمل له تناقضا" وجدانيا( أي حب وكره في آن واحد ). والناس،على رأيه،لا يمتلكون القدرة على ان يمارسوا العنف ضد غريزة الحياة بقتلهم لأنفسهم ما لم يكونوا بعملهم هذا يقتلون أيضا موضوعا حبيبا توحدوا فيه.أي ان كره الحبيب يتحول الى عداء ضد الذات نفسها( أي القلب الساكن فيه الحبيب ) وانه بقتل هذا " القلب " يتم القضاء على " الحبيب ـ العدو "! . وقد ينطبق هذا على حالات من أدباء عشقوا من طرف واحد، طرفهم هم،أو فشلوا في الحب،أو فقدوا أحبّة توحّدوا بهم. فانا اعرف شاعرا" وشاعره تزوجا عن حب عميق، وتوفى الزوج اثر حادث، فاخذت زوجته حفنة من تراب قبره وضعتها في صّرة علقتها برقبتها، وماتت بعد ثلاثة عشر يوما على وفاته! . الوجوديون والانتحار يرى علماء النفس الوجوديون أن جميع حالات الانتحار تكون مسبوقه (بانتحار جزئي وجودي) هو الانعزال عن الآخرين والتخلي عن المسؤولية والامتناع عن متابعة القيم الاصيلة في الحياة. وبهذا يكون الانتحار الفعلي ليس اكثر من ذروة نهاية سلسلة من الاختيارات غير الاصيلة. وهذا التفسير تطوير لنظرية عالم الاجتماع الفرنسي "دوركهايم " الذي يرى ان ما يحدد الانتحار يتوقف بدرجة كبيرة على تكيف الفرد للمجتمع، ما اذا كان متوافقا معه، أو فيه احداث تضغط عليه ليغادره بقتل نفسه.. وحدد ثلاثة انواع هي : الانتحار الاناني ،الذي ينجم عن ضعف علاقة الفرد بالمجتمع وبمؤسساته الدينية والسياسية والاجتماعية،والانتحار الايثاري ، وفيه يضحّي الفرد بحياته في سبيل الجماعة مثل الطيارين اليابانيين في الحرب العالمية الثانية والرهبان البوذيين في الحرب الفاشية،والانتحار اللامعياري الناجم عن اضطرابات حادة وازمات مفاجئة كما حصل في النمسا بسبب الضغوط النفسية لخسارتها الحرب العالمية الثانية . فيما يرى علماء النفس السلوكيون ان الانتحار ينجم عن فقدان فعلي أو متوقع أو متصور " متخيل " لمعززات ذات قيمة عالية مثل :عمل، وظيفة، صحة، اصدقاء، عائلة. ولأنهم لا يتوقعون الحصول على تعزيزات أخرى من بقائهم في الحياة فانهم بانتحارهم يجعلون الذين سببوا لهم الالم يعانون من تعذيب الضمير طوال حياتهم . تتعدد الاسباب والانتحار واحد ! لخّص أحد الباحثين " منتز " الدوافع الواردة في الادبيات بخصوص الانتحار بالآتي: العدوان المتجّه الى الداخل، الانتقام من الآخرين وجعلهم يشعرون بالذنب، محاولة لفرض الحب على الآخرين،محاولة للتكفير عن اخطاء الماضي، محاولة لتخليص النفس من مشاعر غير مقبولة، الرغبة في التقمص او التناسخ أو التجسّد من جديد، الرغبة في الالتحاق بشخص ميت حبيب، الرغبة أو الحاجة للهرب من الضغوط أو الألم أو الانفعال الذي لا يطاق. غير ان هذه الدوافع، من وجهة نظرنا، توجد لدى الناس العاديين من المصابين باضطرابات نفسية كالاكتئاب الحاد. ومع ان بعضا من هذه الدوافع توجد أيضا في حالات انتحار الأدباء ، الا ان أهم اسباب قتلهم لانفسهم تتمثل في : التهميش وتجاهل ما يطرحونه من افكار، وعدم اعطائهم دورا" فاعلا" في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية،ورؤيتهم لأفراد لا يستحقون الحياة،من وجهة نظرهم ، يعيشون مرفّهين فيما هم يعيشون حالات البؤس والفاقه، والانتحار احتجاجا على اوضاع لا تليق بالناس بوصفهم بشرا..وهذه امور ينبغي ان تعيها السلطة لتعمل على أن يأخذ الأدباء مكانتهم اللائقة والمحترمة بالمجتمع. غير ان كثيرين بينهم يدفعهم الى الانتحار: تضخّم الأنا والنرجسية والبرانويا وانشطار الوعي والخوف من الموت والشعور بانعدام المعنى الشخصي وخواء الحياة والاغترابين النفسي والاجتماعي..وتلك حالات ينبغي ان يوليها الاطباء النفسانيون الانتباه،لأدباء بيننا..اعرف كثيرين منهم ظهرت عليهم هذه الاعراض..قد نخسرهم ونحن عنهم غافلون.